arablog.org

أنا هارب، هكذا دخلت تركيا بطريقة غير شرعية

ركضت “منى” مع أبنائها الثلاثة باتجاه “التيل”* عبر الأرض الزراعية الوعرة بعد أن هبط الظلام٫ فهذا أفضل وقت لتفادي حرس الحدود التركي، قال المهرب الذي اصطحبنا من عفرين في شمال حلب باتجاه نقطة التجمع القريبة جداً من الشريط الحدودي، لم نعلم ولم نهتم بأن نعلم اسم تلك النقطة، الجميع كان مشغولاً بالوصول إلى الطريق الإسفلتي الذي دلنا عليه المهرب، قائلاً “ما إن وصلتم إليه فقد دخلتم تركيا آمنين”.
“بلا حتى همس” قال المهرب “سندخل تركيا الآن”، وسيدخل هو معنا على عكس العادة، فهو سيرافق “منى” حتى مرسين كما اتفق مع زوجها قبل أيام، وقضى اتفاق ثانٍ أبرمناه بين أشجار التين، على أن اصطحب معي واحداً من أطفال “منى” وكذلك فعل “طارق”، فيما ظلت الصغيرة حلا مع والدتها، الساعة قرابة الخامسة والشمس لا تزال تنسحب، المهرب شديد الانتباه والحذر أمرنا أن ننحني خلف تلة فأطعنا، صعد هو التلة يراقب الطريق ويتحدث عبر هاتفه بالكردية، على التلة آخرون من الأكراد يتهامسون ويراقبون الحدود، دقائق وأُمرنا بالمتابعة.
حملت منى معها حقيبتين كبيرتين محشوتين حدّ التمزق، نصحها المهرب – وكررنا من بعده – أن تتخلى عن بعض متاعها فالطريق ليس بسهل، كنا أربعة شبان وفتاة وحيدة، مع منى والثلاثة الصغار، جميعنا لنا من الأسباب ما يكفي كي نسلك الحدود بطرق غير شرعية من سوريا إلى تركيا، طارق كان قد تبلغ رسمياً أن يلتحق بالجيش النظامي، وكذلك حال غيث، فيما كان زاهر يستبق التبليغ، الجميع سوريون ويملكون خياراً بالدخول من باب السلامة أو باب الهوى، إلا منى مع أطفالها فهم فلسطينيون، وهؤلاء لا طرق لهم إلا المحروسة بالرصاص، للسوريين، إشارة الجيش الحر على جواز السفر والتي ستعني بطلان الدخول مجدداً إلى أرض الشام أو الحرمان من الوصول إلى أوروبا، كانت أكثر رعباً من مواجهة رصاصات الجيش التركي، كان حال البعض منا أنه يتفادى جيشين بمواجهة جيش ثالث.
تابعنا السير السريع في أرض رطبة وحديثة التقليب، نحن خلف بعضنا في رتل واحد والمسافة بيننا تحددها السرعة الشخصية، وما نحمل من متاع، قليلاً قليلاً لم أعد أرى من هم خلفي ومن هم في الأمام، فيما لا أدري من منا يضغط أكثر علي يد الأخر، أنا أم الصبي “يزن”، الأرض، يهجرها الفلاحون بعد خمس دقائق من السير، فيصبح الجسم أسرع في عبورها، ليعودوا لحراثتها بعد الدقيقة السابعة منه، وقد بالغوا في طول السن، فتبدو كل خطوة كالخروج من بئر، ننزل في خندق، ونعبر من على لوح خشبي فوق تهدم في الأرض، أبحث عن الطريق الإسفلتي المنشود فلا أراه، المهرب هو من أرى ومعه طارق والطفل الثاني، يشير إلي بأن أسرع وحين أصل إليه يسألني عن “منى”، كنا في أعلى تلة فهبطت منها مع يزن وشقيقه وطارق، فيما عاد المهرب للبحث عن منى، لم يكن قد غاب عن نظرنا بعد، حين سمعنا صوت الرصاص.
أطلق الجنود الأتراك علينا في تلك الليلة من الرصاص ما جعلنا نركض كغزلان تهرب من مفترس، أركض شاداً يزن الذي يبدو أني قد مزقت له ذراعه من الكتف، وأحمل حقيبة من حقائب أمه التي قالت إن فيها كل ما جمعته خلال عمرها، وعمري أنا في حقيبتي التي أحملها على ظهري، بالتركية يصرخ المجند التركي، وبالعربية يبكي يزن، وبلا لغة يكاد قلبي يغادر حجرته ويشتد فيه الضرب، رميت عُمرَ منى المخبأ في الحقيبة الكبيرة لعلي أصبح أسرع، فوقعت مع يزن الذي كان أسرع مني في الهبوط والقيام، عدنا للركض، فخلقت أمامي أشجار زيتون شديدة التجاور، بين اثنتين وقعت للمرة الثانية والأخيرة، إلى اليسار مني استلقى يزن، وكيف باتت حلا الصغيرة مستلقية إلى يميني، لا أدري حتى الآن.
لا يرانا المجند التركي لكنه يطلق النار، بكلتا ذراعي أثبتُ يزن وحلا بلا حراك، وأطلب منهما أن لا يتنفسا بصوت عالٍ، يطلق المجند الرصاص علينا أو فوقنا أو بالقرب منا، سنعلم إن أُصبنا إن كان يستهدفنا أم يزيد من جنون عقولنا فقط، يصبح بكاء حلا أوضح مع كل رصاصة وتنتفض، وتنظر إلي وكأني لست بغريب لم تعرفه إلا قبل نصف ساعة، أشعر بضربات قلب يزن من ظهره، وأشعر بقلبي في كل عرق مني، يرفعني النبض عن الأرض “يالله.. يالله..” قلت أناجيه في أصدق مرة ربما في حياتي، فقدت الإحساس بالوقت و لا أعلم كم مكثنا، حين طلبتُ من الطفلين أن يمشيا باتجاه المجند التركي وحدهما، مُدعماً فكرتي بأن أمهما معه، ومُدعماً هو قربه بالمزيد من الرصاص، أدركت حجم قبح طلبي حين رجتني حلا أن أبقى معها، كنت أتنفس من فمي بتواتر عداء، تذوقت التراب بين أسناني، قلت للصغيرين: سنسلم أنفسنا الأن، فلم يعلقا.

قصي عمامة ٣ كانون الثاني ٢٠١٥

 

*التيل مصطلح يطلق على الأسلاك الشائكة بين الحدود

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Plugin from the creators ofBrindes Personalizados :: More at PlulzWordpress Plugins