arablog.org

الفقراء لهم رائحة

لا أحد كمثل الفقير فهو العصيُّ على أي إغراء، لا لعفته فقط، بل لأن تلك الرغبة المغوية مستحيلة التحقق، لا مال يصرف على الملذات التي تنكمش مع الوقت، يُكبت الاشتهاء حدّ الانصهار، فيفقد شكله، ولا يظهر بعد ذلك، فيما ينمو في جوف الفقير فرح آخر لا تصوره الروايات والحكايات ولا الآيات، تنمو فيه لذة لا يعرفها إلا هو، حتى أقرانه لا يعرفونها، فلكل فقير لذة خاصة لا تُمتع سواه.

يفرح الفقير ببعض الطعام الساخن، بالمنزل النظيف، بالموعد مع الغريب، بالسفر الشاق، بالخلاص، بانقطاع البكاء، وبالصحبة الدنيا والاصدقاء المعدمين، يقتنع يوماً بعد يوم بأن النعم تطمره حتى التراقي، ويرضى بالمقسوم، يُطيل النظر نحو الأرض كي لا يحلم بما هو فوق.

الفقير وحيد بالقطع، حتى عندما يكون مع أقران أو أصدقاء أو في حافلة أو حتى ملعب، هو يراقب من حوله بحذر، قليل التعبير حريص على عدم إظهار الدهشة، وقح حين يجب أن يكون، يبتعد عن أي تجمع لا يكافئ قدراته، يهرب من أي فرح جماعي قد يكون ملكفاً للروح، إذ تُذكرُ الجموع الفقير بفقره على الدوام، يشاهد ما لا يملك في الوجوه والملامح، يهرول منها إلى ذاته، إلى وحدته المريحة.

والفقراء، عشاق سيئون، يصادفون عاشقات فقيرات سيئات فقط، لا مكان للخرافة والخيال والقصص الطويلة، ذوقه سيئ، بل هو عديم الذوق تماماً فيما يتعلق بالهندام، ما أدراه ما هو الرائج، وما هو المنتهي، كيف يعلم أي الألوان تناسب الشتاء وأيها يناسب بعد الظهر.

يتشظى الفقير أمام الجميلة، ينكسر في جوفه شيئاً مجهول الهوية، تتشظى نفسه كل يوم، في وسائل النقل ووسائل الاعلام والشوارع والمفارق، تمرّ الجميلة مسرعة أو مبطئة، فتهزمه، تطرح بوجودها عليه أسئلة لا جواب لها، يخسر وينسحب، يصغرُ في نفسه أمام المرآة، يتأمل وجهه ويتمنى لو يبصق عليه.

الفقير جاهل ثمل، لا يعرف الكثير عن العالم، لا يحفظ أسماء البلدان البعيدة، ولا يحب البحر، جهله ليس خياراً، بل طريقاً حتمياً لمن مثله، يدرس القليل المتاح بالمجان، وهذا الأخير دائماً سيئ المستوى قليل النتيجة، يسبقه الغني إلى كل شيئ وقبله بسنوات، فهو خاسر دائم، متأخر دائم، ومتوهم بنجاجه، فإن حقق أي أمر تافه، وضعه أمامه وراقب الرحلة التي قطعها حتى وصل إليه، فيزهو بنفسه مختالاً بما تمّ، لا يدرك حينها أن فقره الثقيل صور له الغث سميناً، فيما زّين له عقله، المعتاد كنجاح وإنجاز، يطول افتخاره بذاته التي لو عزلها عن ما هي فيه، لوجدها هزيلة لا قيمة لها.

لا أمل من الفقير، طريقه شاق وطويل، لا يكفيه عمره الذي يصرفه سريعاً، فالفقير لا يقدر الزمن، ولا يهتم بالوقت ولا الأيام، لا يحتفل إلا قليلاً ولا يهرج ولا يمرج، لا يصيبه إلا ملل الانتظار، فيتغلب عليه بالصبر، ويظن أنه مصيب باستخدام هذا الدواء، الصبر المرّ الذي يصبح عادة لا خلاص منها، يفقد مع الزمن حتى غضبه، تنشل عضلاته التي تستخدم ساعة الغضب، وتنمو تلك المسترخية صبراً وانتظاراً.

والفقراء لا يدخلون الجنة، هم يظنون أنها لهم لكنها ليست كذلك، مُمتحنون حتى لحظة السقوط، يمتحنهم الرب في كل ساعة، يصبرون ويصابرون، قبل أن السقوط في الفخ، يخطئون ويحرمون الفردوس، فيسارعون للتوبة ثم التوبة عن التوبة، يخطئون من جديد، ويهلكون بندم نادر.

هم سريعو العطب، صحتهم متراجعة، أنفاسهم معتلة، لهم رائحة، علة العلل أن تكون فقيراً طامحاً بأي شيئ، هنا يكون الهلاك مدوياً، يتحول الفقير لعبرة لغيره من الفقراء، حين يحاول ويفشل، يصبح جسده سداً عالياً في وسط شارع الفقراء، يراقبونه ويتعلمون أن لا يخاطروا ولا يجتهدوا، إلى دارة العبادة يذهبون جميعاً يتلون الصلوات كي تزداد فيهم القناعة بالحاضر، ويقنعهم كبير الكهنة بنساء غير النساء، ومنازل غير المنازل، ورحلات يسرون ويعرجون فيها من دون مال، يفرحون ويرجمون الجدار وينامون.

الفقير لا يكون طفلاً ولا يمرّ بالمراهقة، تختلط المراحل عليه، لا يعيش أياً منها كما يجب، يفاجئه عمره وهو يزداد، يخاف من القادم وحتماً يكره ما مضى، لا يجد في أيامه السابقة ما يدعو للتفاخر أو الرضى، يسعى للنسيان، قد ينجح، لكنه في نهاية المطاف يموت مبتسماً أبلهاً، يظن الفقير حين يموت أنه انتصر، فقد هزم فقره، من جديد يثبت بذلك كم هو أحمق حتى ساعة موته.

عمامة 13 تموز 2015

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Plugin from the creators ofBrindes Personalizados :: More at PlulzWordpress Plugins