arablog.org

حارة النّور

في متتصف الحارة سكن أبو نغم العراقي الشيعي مع زوجتيه، ذكرى ابنة عمه وزوجته الأولى، التي طلفها لاحقاً وبقيت تسكن معه في ذات المنزل، ومها الفلسطينية الصفدية، لم نكن كصبية نلاحظ الزوجتين، بل البنتين، نغم ورشا، ذوات الشعر الطويل الذي يكاد يصل للارض، نغم شعرها اسود كثيف، ورشا اشقر أقل كثافة، لم تكن ذكرى وهي أمهما تقبل أن يقصان شعرهما أبداً، طوال سنوات شدته على رأسيهما حتى برز جبينهما وازداد مساحة وبروزاً، كان يأخذ عقولنا الصغيرة التي لم تكن تعرف أن الفتاة الجملية ليست شعراً طوبلاً فقط، سكنتنا الدهشة والفضول طوال أيام المراهقة الأولى، وبدأنا البحلقة الشرقية التي يجيدها الرجال بالنساء في الأماكن العامة، تثب نظرنا عليهن وهن يلعب “الريشة” في الحارة القذرة والمليئة بالحفر، نتوقف عن السباب واللعب والتراهن عن أغطية زجاجات المشروبات الغازية، نهمل بويا وننسى هند السهلة ونراقب لساعات المباراة التي ليس هم اللاعبتين الفوز فيها، بل إظهار أكبر قدر من الغنج ووالدلال، يعلبن ويركضن ويضحكن، ثم تنادي واحدة منهما إحدى الوالدتين:
مامي مها….مامي ذكرى
تطل واحدة من الأمهتين: أي مامي
مامي صار العشا؟
أي مامي طلعوا.
في الحارة التي كنا جميعاً ننادي أمهاتنا فيها بـ “أمي، يما، ياما، يامو، يوم، حجة”، كان غريباً علينا ذلك اللفظ الرقيق”مامي”، فاجتمعنا ضمنياً على أن عائلة أبو نغم من “الأكابر” بالذات مع الموز الذي ترمي أم نغم قشره من الشرفة إلى الحارة، بلا أي كيس، أو علب الشوكلا التي تأتيهم من بيروت، كان هناك صبية وفتيات يسرعن إلى العلب الرمية يفتشن عن أي قطعة شوكولا قد تكون منسية فيها، لكن أم نغم كانت تنهي كل القطع.
ابو نغم هو هشام زكي، شخصية تجمع كل المواهب التي خلقها الله في الانسان، مع كل الرذائل التي تفسد أي موهبة، هو ابن عائلة بغدادية تتكون من 34 أخاً وأخت، أبوه مزواج وله أربعة زوجات اقتسمن ذات البيت، رغم هذا وصل هشام إلى الجامعة ودرس الفنون الجميلة في جامعة بغداد قبل أن يتطوع في المخابرات في خطوة قل ما يقدم عليها الرسامون، لكن بغداد السبعينات أجبرته على سلك الطريق الأقرب لشخصيته القلقة.
تعامل أبو نغم مع المخابرات العراقية وارسل من قبلها إلى دمشق بصفة معارض سياسي، لكنه كان يرسل التقارير إلى العاصمة العراقية في الفترة التي تنازع فيها صدام حسين مع حافظ الأسد وشتم شطري البعث بعضهما لسنوات، كانت كتب تباع على ارصفة بغداد تشتم حافظ الأسد، ومثلها على ارصفة دمشق تشتم صدام حسين، لأجل مهمته التي لم تكن مقدسة تقرب أبو نغم من ضباط في المخابرات السورية، مصحباً زوجتيه إلى كثير من السهرات والجلسات، إلى أن تحول في يوم واحد إلى عنصر مخابرات سوري، استمرت السهرات لأسباب أخرى ليس فيها أي جمع للمعلومات.
في الحارة، تبرق سيارة المرسيدس موديل 85، سوداء بنوافذ لا تكشف مافي داخلها، ورغم أن الحارة تضم صبيان لا يوقهم أي شيء عن اللهو والعبث والتحطيم والسرقة، إلا أن المرسيدس لم تمس ولو ليوم واحد بأي أذى، كان أبو نغم مرعباً ولطيفاً في آن معاً، يبتسم للرجال ويلقي التحية المؤدبة على النساء ويطرق عينيه أرضاً، لكن إن حدث وإزعجته فإن قلمه ستولى أمرك خلال ساعات، ولن تعود للحارة أبداً، كان ذلك القلم كفيلاً بكبح جماع الرناكسة والنازحين والحفيرية ساكني الحارة وملاكها أمام مستأجر كأبو نغم.
تحت منزل أبو نغم كان الشامي أبو محي الدين يملك محلاً يبيع فيه اللحم لأهل الحارة، رجل شامي لا يزال يعتقد أن دمشق له وحده، وكل الهاربين من حروب المنطقة وفقراء المحافظات ومتطوعي الجيش وأبناء الريف هم مجرد عابروا طريق لا مكان لهم في العاصمة، قصير بصوت عال ومخارج حرف معوجة، وكلمات مقلوبة، ورائحة زنخة حتى خارج أوقات عمله.
يصل أبو محي الدين إلى محله في الحارة عند السابعة صباحاً، يفتح المذياع على إذاعة دمشق ويرفع الصوت، كان الحارة تستيقظ باكراً، المهن تستوجب ذلك، كل صنوف القوات المسحلة ينتمي لها مساعدون في الجيش يسكنون الحارة، هؤلاء يغادرون قبل السادسة، ثم الخضرجية، والمدرسون والتلاميذ، ثم النساء الى السوق، وبعده إلى ابو محي الدين، أم هيثم وأم حيدر الطرطوسية، أم عروة الأدلبية، وأم فواز الزبدانية، يمررن على أبو محي الدين لشراء نصف وقية من اللحمة، كان هذا الوزن رائجاً وعادياً ولا يزعج أبو محي الدين، نارداً ما تشتري أي أمرأة ليومين متتالين اللحم منه، ونادراً ما يدفعن مباشرة، فهو يبيع بالدين، لذلك تسكت النساء على غشه الواضح، وكثره الدهن في لحمه.
كانت بيوت الحارة متلاصقة تماماً، يتقدم بعضها على بعض ببضع أمتار وفقاً لما يمتلكه من بنى المنزل من واسطة في البلدية، تبيح له أن يخالف المخطط الاساسي لبناء المنازل، التقدم كان حال منزل أم نغم التي يجاورها تماماً الطابق الثاني من منزل أبو محمد الفلسطيني الذي ترك الطابق الثاني من المنزل لابنه محمد الذي كان يدعى أبو العز، عملياً تلتقي الشرفتان كل إلى جوار الثانية وليس في مقابلها، أبو نغم كان قد غطى شرفته المتقدمة والمبنية على محل ابو محي الدين بألواح من القصب المشبك الذي راج في دمشق في اواسط الثمانينات، ظلت شرفته طويلاً على هذا الحال، لها نافذتان في تصميم مشوه للنوافذ الشامية القديمة، خلف القصب أًتم البناء على الشرفة التي كان لها شباك ثالث من الجهة اليمنى، أي تماماً حيث تبداً شرفة أيو العز.
في عام 90 اشترى ابو العز القصب المشبك وغطى واجهة شرفته بشكل تام، ولم يترك أي شباك فيها، بعد أيام فتح شباكاً صغيراً على اليسار، يقابل شباك أم نغم ولا يفصله عنه إلا أقل من متر من الهواء، بعد اسبوع وصل الشباكان بوصلات من القصب اشبه بدهليز بين الشباكين، جنت أم محمد التي تسكن في المنزل الأرضي المقابل للشرفتين، وهي شابة في العشرينات من معضمية الشام، قالت لأم مروان التي تسكن تحت الشرفيتن المتحدتين:
يتستروا شوي، شو هاد، عيب والله عيب
لك ما عاد حدا استحى ام محمد، شو بدك بالحكي
ولي ولي على المناظر اللي عمشوفها ولي، بطفي الضو عندي وتفرج من الشباك ،ولي….
عبر الدهليز القصبي، كانت أم نغم تحشر نفسها وتصل إلى أبو العز في أول الليل، تقضي الليلة عنده وتعود فجراً، أم محمد التي طالما كان زوجها مسافراً وهو سائق في شركة نقل حكومية، ظلت تتابع لأكثر من عام من النافذة وفي الظلام، تنقل أم نغم بين الشرفتين، حتى اليوم الذي أزيل فيه الدهليز، ثم الشبك من شرفة أبو العز وانتهت العلاقة بين العراقية والفلسطيني، كانت أم محمد تمتلك الصورة فقط، فيما تمتلك أم مروان الصوت فقط، تجتع الأثنتين معاً كل يوم، وتتاطبقان الصوت على الصورة.

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Plugin from the creators ofBrindes Personalizados :: More at PlulzWordpress Plugins