arablog.org

حارة النّور – نادية المجنونة

انتهى أبو محمد الفلسطيني للتوِّ من ضرب زوجته أليفة، هي زبدانية تكبره بعشر سنوات على الأقل، قصيرة وسمراء، عيناها تكادان تختفيان من التعب، لكنها كانت مصرَّة على أنها شابة وبيضاء، فترتدي الملابس الشفافة والقصيرة لتكشف عن جلد متهالك وجسد بلا خصر واضح الحدود، وتتلقى الكثير من الضرب والسباب العلني من زوجها أمام جميع سكان الحارة، لكن أليفة التي لها من غرابة اسمها ذات غرابة حياتها ذاتها ، لم تكن تكتفي بأبي محمد واسمه الأول شوكت، كرجل يشاهد مفاتنها ويزدريها، كانت تحب أن تغري فلسطينياً أخر هو عرفان الصحفي المقيم في الطابق الأول، وقد استأجره من شوكت.

 

نادية المجنونة

تنزل أليفة الدرج إلى حيث باب عرفان ابن الثلاثين، لا ترتدي إلا الشلحة، تشغل سيجارة وتنتظر وصوله عند الثانية ظهراً، ما إن يطل حتى تفتح معه أي حديث:

– أي مو يعطيك العافية يا عرفان

– أهلين أليفة كيفك اليوم؟

– مشتاقتلك يا عرص.

– والله أنا لا.

– ما قتلك عرص.

– لك شو هاد اللي لا بستيه!.

– الله بحب الجمال وخلقوا ليبين مو ليتخبى.

يتأمل عرفان بما يسمح به الزمن حتى يفتح بابه، كل تلك التجاعيد على رقبة أليفة، سقط الجلد من أسفل فكها، وتدلى على طول رقبتها، فيما ظهرت أصباغ جلدية على أول كتفيها، لم يعد ثدياها صلبين يحافظان على المسافة البراقة الملساء التي بينهما ، وهبطا كثيراً رغم محاولتها الدائمة لسحبهما إلى حيث كانا قبل عشرين عاماً، بلا أي أمل لتصحيح تمركزهما، لكنها كانت محقة، فأول صدرها يبدو أكثر بياضاّ من وجهها، فتزداد إصراراً على أنها بيضاء، والفلسطيني يحبُّ البيضاء الشامية.

لم تكن أليفة تريد من عرفان إلا تلك النظرة التي يتأمل فيها بعضاً من جسدها، لن تصل يوماً إلى رغبة أكبر من تلك، وهي تعلم أنه لا يشتهيها ولن يقترب منها فالشاميات اللواتي يدخلن بيته صغيرات وبيضاوات بالكامل، لكنها تشتاق لنظرة شاب إليها حتى لو أتت سريعة وربما مشمئزة، تنسيها بعض الضرب الذي تتلقاه من شوكت الذي كان يشرب كثيراً ويضربها في لحظات الثمل الأخيرة، ودائماً في آخر الليل، لم يكن أي رجل آخر في الحارة ينادي زوجته بصوت عال مثلما يفعل هو، ولم يكن يستخدم اسمها أبداً، كلٌّ يناديها بالعاهرة، وتردُّ هي عليه بالعرصة.

أغلق شوكت النافذة بعد أن توقف الصوت النسائي الذي كان يصرخ في منتصف الحارة، وعاد للشرب أو الضرب، فيما تمكنت أم عصام أخيراً من جعل ابنتها الكبيرة نادية تتوقف عن الصراخ وتنام، كانت نادية العراقية المجنونة كما كنا نسميها في الحارة، فتاة جميلة أضاع جنونها لون عينيها واتساعهما، سوداوين حوراوين، شعرها أسود ليلي كهاربة من قصيدة للسياب، قوامها ممشوق بلا أي وزن زائد، نحت جسدها بعناية قلما عرفته أي امرأة أخرى، جسد يجعل أي رجل عاقل يشتهيها لا لليلة واحدة، بل لعمر كامل.

ولدت نادية كما حال أخويها عصام وسامر والأخت الصغرى آية في بغداد، لأب موظف وأم لم تعرف إلا المطبخ كمكان للعمل، كبر الأولاد كما كتب لكل عائلة لا تعرِف أي أمر استثنائي بهدوء مرّ، حتى السابع عشر من تموز عام 1988م.

خرج أبو عصام إلى وظيفته صباحاً متجهاً إلى وزارة التربية حيث يعمل موجهاً لمادة التاريخ، لم يكن يوماً عادياً فالحزب المتغلغل في كل دوائر الدولة يحتفل في هذا اليوم بالذكرى العشرين للانقلاب، والاحتفالات تستمر لأيام في مبنى الوزارة، جلس في الاحتفال الخطابي كما فعل كل الموظفين، في المهرجان أصابه شيءٌ من نعاس، فأصبح تصفيقه كلما ذكر القائد والحزب والثورة، ليناً بلا حماس مصطنع مطلوب.

في الثامن عشر من تموز داهمت المخابرات بيت أبي عصام، واقتادته مع كل أفراد عائلته إلى مركز أمني، سُئل عن علاقته بكلِّ دول العالم، وضرِب وعذِّب، سمع صراخ زوجته وأولاده من الزنازين الأخرى، ثم جمعت العائلة في زنزانة، نادية كانت شهية بلا جنون خجولة لم تمس أبداً، اشتهاها السجانون وحصلوا عليها أمام إخوتها وأبويها اللذين صرخا حدَّ الإغماء، ملقاة على الأرض فوقها سجان يدس فيها ما لا تعرف، اشتعلت كلُّ نار العالم في رأس عصام وسامر لم يكن أمامها من سبب للحياة بعد ما شاهداه، بكتلة جسديهما المكبلة بالجنازير هاجما السجانين حتى قُتلا واستمر اغتصاب نادية.

على الأرض اختلط دم بكارة نادية، بدم أخويها، خرج عقلها منها مع كل الارتجاج الذي كان يضرب جسدها، بقيت روحها عالقة فيها في ذلك اليوم، كانت تلفظها وتفشل، تطردها فتبقى، حتى انتهى آخر سجان منها ورفع بنطاله، حينها لم تعد تشعر هي بأي ألم أو هتك أو وجع، سكن مكان عقلها شيء ما، جعلها في رحمة وسكينة.

في الحارة لم تكن نادية خطرة على الصبية، تكفي بضع حبات مهدئ تدسها أمها في الماء كي تمنع صراخها الليلي في دمشق، في النهار تقف نادية على سطح المنزل، لساعات بلا أي حركة، تنظر في الأفق ولا تأتي بأي فعل.

صيف عام 1989م، صعدت نادية سطح المنزل ووقفت لساعات، عند مغيب الشمس، ألقت بنفسها من الطابق الثاني نحو الأرض، حملتها خطوطُ التوتر العالي وخففت من صدمة ارتطامها بالأرض، كان التيار مقطوعاً فنجت نادية من محاولة الانتحار، قفل أبو عصام سطح المنزل، ولم يعد من المسموح لنادية أن تبقى وحدها هناك.

في صيف تسعين وفي آب أيضاَ، نادية من جديد تتأمل الأفق لساعات على السطح، صرخ الجيران لأبي عصام وأم عصام وركض بعض الشبان نحو السطح، قبل أن يصلوا لنادية بقليل، رمت نفسها بذات الطريقة، ومن جديد خففت خطوط التوتر العالي من ارتطامها وحماها انقطاع التيار الكهربائي، عمّر أبو عصام حائطاً مكان باب السطح، وأعلن حظرَ التجولِ في البيت.

صيف 1991م، الحرارة لا تطاق في شهر آب، وصلت نادية من جديد إلى السطح، ووقفت تتأمل الأفق، كانت السابعة مساء والحارة مكتظة، صبية يلعبون بالكرة، نساء يأكلن البزر، ويخضن في أعراض الغائبات، رجال يتنافسون في التدخين وسرد أمجاد الماضي، شبان يسرقون النظر إلى شابات مراهقات، هند تبحث عمن يرافقها إلى السوق ليلاً وتكشف له عن أعضائها، فجأة شاهد الجميع نادية، وعم الصراخ، ولولت النساء، وشهقت أم عصام، نادية رفعت رأسها لأول مرة نحو السماء، خلع شباب الحارة الباب الرئيس للمنزل وصعدوا الدرج، وجدوا الجدار في ووجههم وبدأوا بتسلقه

نظرت نادية إلى السماء، وابتسمت قليلاً، ثم تركت جسدها يهوي، بسرعة سقطت أولا على خطوط التوتر العالي التي انفجرت واستقبلت نادية، لثواني بقيت معلقة من نصفها، ثم تابعت السقوط، ما وصل من نادية العراقية المجنونة، بدأ يطرح الدم، فيما يقطر الدَّم من خطوط التوتر من بقية جسدها، تجمع الرجال والنساء والأطفال والمراهقون حول الجثة، راقبوها من مسافة نصف متر، عبر الدم من بين أقدامهم وبلل المتساقط منه جباه بعضهم، مسح أبو محمد الفلسطيني وأبو نغم العراقي وأبو حسين الحلبي الدم عن جباههم بسرعات متفاوتة، أسرعهم كان أبو نغم، لم يبكِ أحد، كان الخوف من المجنونة أكبر من الحزن عليها.

كانت نادية في فترات تأملها للأفق قبل أن ترمي بنفسها من الطابق الثاني، تقرأ ما تحفظ من القرآن، هكذا قالت أم عصام التي سردت لأول مرَّة حادثة اغتصاب نادية ومقتل أخويها في بغداد أثناء تلقيها العزاء من قبل نساء الحارة، كانت منهارة ولم تتحفظ في حديثها عن سبب هروب العائلة التي لا تزال تقل في تعدادها، أكدت أم فايز التي يقابل سطحها سطح أم عصام أنها شاهدت نادية ترتل.

جثة نادية المجنونة أول جثة نشاهدها ونحن صبية، استغرق غسل دمها ساعات في الحارة، فيما بقي شيء من جثتها لسنوات على خطوط التوتر، كان يخيفنا ويذكرنا بها كلما مررنا من تحته، اعتقدنا آنذاك أنَّ كل المجانين يقتلون أنفسهم ويحفظون القرآن، واسمهم نادية.

قصي عمامة

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Plugin from the creators ofBrindes Personalizados :: More at PlulzWordpress Plugins