arablog.org

حارة النّور – الأحول

تسند أمُّ محمد ظهرها كي تتمكن من الركوب إلى جانب زوجها، في سيارة الشحن الكبيرة، فهي حامل، كما العادة، منذ تزوجت، بطن لا يعرف الكللَ ولا الملل ولا الراحة، إلا لأشهر قليلة بعد كلِّ ولادة، العائلة تنتظر الصبي الذي لم يصل بعد، حتى الأن كلُّ الذرية من البنات، وأبو محمد يكاد يفقد عقله، هو يريد صبياً، ويريده سريعاً.

لم يكن أبو محمد واسمه الأول جمال، فاسداً كبيراً، كان يكتفي بسرقة مازوت الشاحنة التي يعمل عليها كسائق في مؤسسة الإسكان العسكري، ويبيعه عن طريق زوجته لنساء الحارة شتاءً، زوجته التي لم تكن ترضى أن تلبي الطلبات إذا كان زوجها في المنزل، ساعات البيع من الثامنة صباحاً حتى الخامسة مساء، تقول للجارات إنَّ أبا محمد لا يعرف أنها تبيع المازوت من خزان المنزل، وتقنعهن أنها تفعل ذلك لخدمتهن فقط، هكذا اتفق الزوجان على خطة العمل، أبو محمد يسرق وأم محمد تصرف المسروقات، إلا أن كلَّ سكان الحارة كانوا يعلمون مصدر المازوت، ويشاهدون الخزان الهائل الذي وضع في فسحة المنزل ذي الطابع الريفي، فسحة سماوية كبيرة، تحيط بها غرف ثلاث ومطبخ، غرفة للمعيشة تبقى فيها أم محمد مع بناتها كلَّ النهار، وغرفة خاصة بأبي محمد لا يدخل إليها إلا هو مع زوجته، وغرفة للزوار لم تدخلها أي من نساء الحارة، إذ تستقبلهن أم محمد في غرفة المعيشة فقط.
حين ولد محمد، أطلق جمال عشرة طلقات في الهواء، لم يعرف أحد من أين أتى بالمسدس، ولا أين ذهب به، ارتعبت الحارة، ثم هنأته ثم نامت، محمد كان يشبه نجمة، عيناه خضراون، لونه أبيض محمر، وشعره أشقر ذهبي، إلا أن مسحة من سماجة نادرة سكنت وجهه منذ أيامه الأولى ولن تغادره أبداً.
بعد أيام من الولادة، لفَّت أمُّ محمد مولودها الذكر، بقماش ظنت أنه فاخر اشترته من سوق الحميدية، وعطرته بالكولونيا الرخصية التي يتعطر بها زوجها، وصمدته أمام الجارات، التي كما العادة لم تقدِّم لهن حتى كأس ماء، فهي بخيلة مغلولة اليد، أم يوسف الإدلبية التي تسكن في آخر الحارة، وأمُّ هيثم اللاذقانية، كنَّ أكثر من جُنّ من مشهد محمد الملفوف والمعطر، إذ إنَّ كلتيهما لم ترزقا بعدُ إلا بالإناث، ولا زلن يلقبن بأسماء الذكور من باب الشفقة أو الحلم، أم يوسف كانت طويلة لئيمة تجيد استخدام لسانها لكنَّ عينيها تفضحان مدى غيظها، وهي تراقب محمداً الذي يكبي فيُطرِب أمه ويزْعجُ الجارات، أم هيثم تتميز بعفوية لا تليق بغبائها، إذ نظرت لمحمد وأخذت تبكي بصوت مسموع، وراحت تردد:
– “دخيلك يا الله، اطعمني متلو”.
هنا قضى محمد حاجته وسدَّ أنوف الحاضرين بالرائحة، ضحكت أمه وهدهدته، انتهزت أم يوسف الفرصة والرائحة، لتقولَ أمام كل الجارات، وهي تلف وجهها وتبالغ في قرفها من الرائحة:
– “هي مو ريحة طبيعية، يمكن مريقن أو معو حصبة، كلو ع الله”.
جنت أم محمد التي لا تجيد حتى القراءة والكتابة، لم تعرف أن التشخيص السريع لأم يوسف التي غاردت بعد جملتها فوراً، منبعها الغيرة لا العلم، فقالت لها أم هيثم:
– “والله عم يقولو منتشر التفوئيد”.
سارعت أم محمد لحمل الطفل والركض إلى أقرب طبيب، والطبيب الوحيد الذي كان له عيادة في حارة النَّوَر عام 1993، كان طبيب الأسنان التلاوي، سليم، وهو عميد في الجيش يسكن الحارة ويبلغ الأربعين ولم يتزوج، قرَّر أن يفتح عيادة في الحارة، لأنه لا شيء يفعله بعد الثانية ظهراً، فحوَّل جزءاً من المنزل إلى عيادة وكتب على اللافتة
“العميد الركن الطبيب سليم، إخصائي أسنان”.
فلم يدخل إليه أحد من الحارة، كان الجميع مقتنعاً أنَّ طبيباً في الجيش، يساوي ممرضاً في مشفى حكومي، تشخصيه مميت، وعلاجه قاتل.
دقت أمُّ محمد باب العيادة المقفول دائماً، ففتح الدكتور سليم وهو بالملابس الداخلية، فرمت الطفل بين يديه وهي تبكي وتندب تلاحقها نساء الحارة، براز الصبي كان انتشر إلى خارج القماش الملفوف به، والرائحة كانت مختمرة، دهش سليم من المشهد، وسرَّ به، هذا مريض يحتاج إلى إسعاف، فسارع مع الطفل إلى غرفة الكشف، قلب الطفل، وفكه ونظف قليلاً من برازه، قبل أن يتذكر أنَّ اختصاصه في الأسنان وليس في الأطفال، كانت أم محمد تولول، سألها بحزم:
– “من شو عم يشكي؟”.
– “الريحة مو طبيعية، معو سل أو يرقان أو ما بعرف”.
قبل أن يحسم أمره، قرَّر سليم أن يقترب أكثر من مصدر الرائحة، ويشتمَّه جيداً، مال برأسه نحو مؤخرة محمد، واشتمَّها، هنا دار بينه وبين نفسه حديث سريع، مفاده أنْ ماذا تفعل بحق الله، كان يركز في الرائحة ولا يعلم ما يفعل لمريض إلى هذه الدرجة؟ رفع رأسه غاضباً وقال لأم محمد:
– “أي خـ** عادي هاد، عملتيها قصة، انقلعي لبرا رملاً”.
فرحت أم محمد وحملت الطفل مع الرائحة، وقررت أن تزور أمَّ يوسف الآن، وقبل أن تغير القماش الذي صار داكن اللون.
كبر محمد وبلغ العامين من العمر، كبر معه حب والده ووالدته له، بالذات بعد أن أنجبت أم محمد بعده، ريم، تلك الفتاة التي زاد من احتقارها في عيني والديها، أنها سمراء بعينين سوداوين تشبه فاطمة وابتهال، فركز الجميع على قصة النجاح التي ربما لا تكرر، محمد، الذي زاد دلاله وازدادت مسحة السماجة في وجهه.
تشتري أم محمد أوقية من اللحم لطبخة العائلة، وأوقية مثلها مخصصة لمحمد بحسب تعليمات جمال، في السوق تشتري الخضار للعائلة، والفواكه لمحمد، وفي المنزل تفرد مائدة للبنات وأخرى لمحمد، مساءً يصطحب جمال ولده إلى محل كبيري ويشتري له كل ما يشير له بأصبعه، فيما الفتيات في المنزل يراقبن فقط، صدمت نجمه حين شاهدت الصحفي الفلسطيني عرفان، يشتري الشوكلا لابنته، لم تجرئ على ذكر ما شاهدت لوالدها.
حين بلغ محمد الخامسة، كانت أمه تراقبه وتتأمل جماله وذكورته، صرخت فجأة حين انتبهت إلى أنَّ عيني الطفل ليستا في ذات الاتجاه “الصبي أحول” قالت لجمال الذي لم ينم تلك اللية، في الصباح حمل محمداً وتوجه إلى الطبيب، الذي قرَّر أن محمد يحتاج إلى نظارة طبية.
حين كنت تنظر في وجه محمد وهو يلتهم الشوكولا ويلوِّث كلَّ المكان حوله فيما الفتيات ينظفن ولا يأكلن، كنت ترى عينيه طبيعيتين لا شيء فيهما، لكن حين تطلب منه أمه أن ينظر إليك، كان محمدٌ يميل برأسه نحو اليمين، وما هي إلا ثوان حتى يحوِّل نظره فتكاد عيناه تلتصقان ببعضهما، احتاج جمال لسنوات كي يدرك أنَّ محمداً ما هو إلا ماكر يطلب المزيد من الاهتمام، ويعرِف كيف يحرِّك عينيه عند الطلب كي يبدو أحولَ، وأنَّ الطبيب أخذ منه ألف ليرة وباعه نظارة زجاجية لا تفيد ولا تضر.

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Plugin from the creators ofBrindes Personalizados :: More at PlulzWordpress Plugins