arablog.org

حارة النوّر- السروال

وجه جمال الحفيري كان ينتعش ويتحوَّل إلى وجه أهبل حين يحدِّث أية امرأة، وينكمش وتختلط ملامحه حين يحدِّث أي ذكر، وقف أمامه أبو محمد الفلسطيني في حزيران عام 92، يطلب منه أن يتستر قليلاً، فليس من اللائق أن يخرج شاب بعمره إلى الحارة وهو يرتدي سروالاً داخلياً فقط، كان جمال يرتدي «سليب» أبيضَ ضيقاً يجبر النساء المارات في الحارة على تغيير الطريق، وترتل بعضهن وتستغفر بعضهن، وقد تشهق أو تضحك بعضهن.

قال أبو محمد:

– «تستر ولا، شو هالمناظر!، قول في نسوان بالحارة».

كان جمال أمام باب منزله الحديدي الأخضر، سمع جملة أبي محمد فتوجه إليه، قرَّب رأسه من رأس أبي محمد الفلسطيني الأعور، وبدأ وجهه بالانكماش، رفع شفته العليا نحو أعلى اليمين، وأخفض حاجبه الأيمن نحو أسفل، كلاهما، الشفة والحاجب، مرِن وطيِّعٌ ويقبل الانخفاض والارتفاع أكثر من المعتاد، اجتمعت نصف ملامح وجه جمال في منتصف وجهه الأيمن فيما التوى أنفه نحو اليمين، وظهرت من تحت شفته التي رحلت عن موضعها، أسنانه الصفراء الكبيرة، علت ذراعاه عن مكانهما وباتتا في وضعية مستنفرة، قدمه اليمنى تتقدم على اليسرى ببضع سنتي مترات، وكل جذعه يميل نحو الأمام، نظر في وجه أبي محمد وقال:

– «وشفلك بربي؟».

عُرف جمال بهذا السؤال الذي احتاجت الحارة لسنوات لمعرفة معناه تماماً، إلى أن قرر الجميع أن “وشفلك” هي تطوُّرٌ لغويٌّ حفيريٌّ يراد منه الاختصار لـ «وما دخلك أنت؟» وهي بالعامية «شو إلك في- وش في لك- وشفلك».

لم يبالِ أبو محمد بالسؤال الذي تضمن تجديفاً، ففي أغلب ساعات النهار يكون أبو محمد سكرانَ لم يتوقف عن الشرب إلا حين هدمت له البلدية الطابق الرابع المخالف عام 96، لكنه استفز حين لاحظ أن عين جمال اليمنى قد اختفت بين ملامحه التي رحلت باتجاه خده، ظنَّ الفلسطيني أن جمالاً يشير إلى عوره، فانتفض قافزاً في الهواء وانقض على جمال، أبو محمد قارب الستين، عمل طيلة حياته في نجارة الباطون، وجمال بائع خضرة متجول لا يزال في أول العشرين، فقابل طيران أبي محمد بطيران مماثل، لكنه كان أعلى وأسرع.

لحظات مرَّت قبل أن يصبح جمال فوق وأبو محمد تحت، لكن من هو تحت وكما هي عادة الفلسطيني، رفض الاعتراف بالهزيمة، فظلَّ يوجه لكمات لا تصيب جمال، فيما يتلقى منه لكمات من أطرافه الأربعة، تقاذف الرجلان كل أنواع الشتائم، وتفننا باختراع بعضها، كان جمال أقلَّ إبداعاً في تأليف جمل القدحِ والذَّم، أبو محمد ساعدته خبرته وموقفه الضعيف في خلق جُملٍ أصابت أمَّ جمال، وأخواتها، وخالاتها، وكل نساء حفير في جملة موزونة واحدة.

أسرعت رنا شقيقة جمال التي لم تكن وصلت إلى عمر العشر سنوات بعد، وحملت حجارة وبدأت تضرب بها أبا محمد من بعيد، وتناديه باسم ابنه:

– «يا أعور يا أبو العز، يا عرصة».

لينا تكبر رنا بعامين، وهي أشدُّ قبحاً من جمال، وأكثر جرأةً من رنا، اشتركت في القتال، كان رأس أبي محمد قد أصبح تحت إبط جمال، رفعت لينا قدمها تريد أن تسدد لكمة على رأس أبي محمد، لكن قدمها علقت في إبط أخيها ورأس أبي محمد، فتمسكت بشقيقها وكزَّت على أسنانها، فقدَ جمال توازنه بعد تدخل قدَمِ لينا، وراح يدور على نفسه، ويسحب معه أبا محمد الذي انطوى على نفسه، ولينا التي تقف على رجل واحدة، حجارة رنا أصابت الجميع، هنا علا الصوت أكثر، ووصل لأليفة زوجة أبي محمد في الطابق الثالث، التي أطلت من النافذة، وشاهدت زوجها يلفُّ، ويضرِب، ويشتم، فزغردت ثلاث مرات، ثم سعلت مرَّة واحدة، وأغلقت النافذة، كي لا يستقيظ ولداها سامر ومحمد، فيساعدا في وقف الرقص المستمرة لأبيهما في الحارة.

فُضَّ الاشتباك بتدخل العقلاء «عرفانِ الصحفيِّ الفلسطيني، زكي الرسام العراقي، وأبي محي الدين اللحام الشامي، وأبي جمال الحفيري» شخصياً، سحب كلُّ رجلين رجلاً وطلبا من جمال الاعتذار لضربه رجلاً بعمر أبيه، فيما اختفت كلٌّ من رنا ولينا من المشهد، رفض جمال الاعتذار وعاد ليكرِّرَ :

– «وشفلكم في ربي؟».

أشعل الجميعُ سجائرَ، ونفخوا في وجه بعضهم، بعد قليل انصرفوا وكلٌّ منهم يشتم الآخر بصوت لا يكاد يسمع، وانتصر جمال مع سرواله الداخلي، وعاد ليجلس القرفصاء على المصطبة الإسمنتية أمام باب المنزل، وباعد بين فخذيه هذه المرَّة.

في بيت الحفيرية، كما يُسمَّون في الحارة، كان الجميع يشتم رائحة غريبة دائماً، ليست بصابون ولا دخان، ولا بخورٍ، ولا جميلة ولا قبيحة، إنما هي رائحة نادرة، رائحة بشرية تشتمها حتى إن قابلت أيَّ فرد من العائلة في أي مكان من دمشق، فسرت نساء الحارة الرائحة بأنها تنتج عن القمل، فيما ذهبت القبيسية إلى أنها بسبب قلة الاستحمام، وغُدَد التعرُّق التي لا تشبه أية غدد أخرى بحسب تحليل سريع أطلقت في جلسة نميمة، تسمع نساء الحارة رأيَ فلكٍ القبيسية الشامية، ولا تناقشن فيه أمامها، فهي مدرسة ترتدي حجاباً أزرق اللون، مع رداء لا يظهر منها شيئ بذات اللون، وتترك حاجبيها كما خلقهما الله سميكين متصلين، هي وبناتها لم يعدن يمررن في الحارة صيفاً كي لا يشاهدن جمال يستعرض سرواله الداخلي الأبيض، على الأقل تراه فلك أبيض، أم هيثم اللاذقانية تقول إنه أصفر من شدة القذارة، فيما تصر أمُّ فايز الكردية على أنه أصفر من الأمام بنيٌّ من الخلف، سريعاً قالت أم هيثم لها حين أصرت على الألوان :

– «والله أنا ما دققت كتير أنت أدرى بألوانو».

منذ ذلك اليوم قرَّرتْ أمُّ فايز أنَّ أم هيثم ثرثارة لا تجوز عِشرَتها، ولم تعد تزورها، أو حتى تلقي عليها السلام في الحارة.

قلة من كانوا يعرفون لِمَ يخرج جمال بسرواله الداخلي إلى الحارة، يجلس القرفصاء ويباعد بين فخذيه، تماماً مقابل شرفة أبي رأفت التركماني، على الشرفة تجلس فاتن التي كانت بعمر السابعة عشرة، هي لساعات على الشرفة تلعب بشعرها الأسود، وهو لساعات على الباب، لم يكن جمال يعرف أية طريقة أخرى لإغواء فاتن إلا هذه، هي كانت ترتبك مما ترى، وتظن ألَّا أحدَ غيرها يرى جمال، وهو يلعب بشاربه وينظر إليها، يدق قلبها وتشعر بخوف محبب، لا هو ولا هي فكرَا بالخطوة التالية، التي لم تكن مهمة لهما بقدر ما هي مهمة لكل صبيان الحارة.

في صيف 94 خرج محمد شقيق جمال الأصغر من المنزل خلسة، وتوجه إلى دكان خارج الحارة، واشترى بمئة ليرة قطعاً من الشوكولاتا والسكاكر، كان محمد مصاباً بداء السكري، وتراقب أمه كلَّ ما يأكل كي لا يقع في نوبة ارتفاع سكر، هو الوحيد الهادئ في منزل أبي محمد الحفيري الذي كان يكنى به لا ببكره جمال، لم يسمع أحدٌ صوته، وهوالوحيد الأبيض بشعر فاتح، عاد إلى المنزل ودخل غرفته وأغلق الباب على نفسه.

في منتصف ليلة من تموز 94، سُمِع صرَاخُ أمِّ محمد الحفيرية للمرة الأولى في الحارة، مات محمد، ودفن صباحاً، روت أمه بعد أيام أن أكثر من عشرين قطة دخلن غرفة محمد، وجلسن حول جثته، قالت إنها لم تستطع طردهن إذ كانت القطط تجلس قرب الجثة ولا تقترب منها، فسرت نساء الحارة الأمر لأم محمد، قلن «سيدخل الجنة».

منذ اليوم الذي دفن فيه محمد، لم يعد أحد يرى سروال جمال الداخلي، إلا منشوراً على حبل الغسيل.

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Plugin from the creators ofBrindes Personalizados :: More at PlulzWordpress Plugins