arablog.org

حارة النّور- الهوية 11

الهوية

في النهاية كلُّ الحارة هزمت «الزبالون، والعتالون، والصحفيون، والمرتزقة، وفتيات الليل»، وأيضاً «العمال، والموظفون، والباعة، والتجار، والأساتذة»، الجميع هزموا حين منحَ النَّوَرُ الجنسيةَ السوريةَ في نهاية التسعينيات، وحصلوا على الهوية السورية، قرَّرَت الحكومة أنهم سوريون، قال اقتصاديو البلاد إنهم يحققون دخلاً، وباتوا جزءاً من الحركة السياحية، لم يفهم أبو محمد الفلسطيني الذي بات يؤجر منزلين للنَّوَرِ، كيف تساهم الرقاصات في تشجيع السياحة، شرح له أبو محي الدين اللحام ببطءٍ:

«السعودي والكويتي والإماراتي لعندهن، شو هدول مو سياح؟».

«لا السايح هو بس الأجنبي مو العربي، أي هدول ش**** شو هالسياحة هاي، أشو قلبوا آثار!.. ».

«كلو سياح لك شوكت وأنت لازم تشجع السياحة معي.. ».

لم تمضِ ساعات حتى كان أبو محمد وأبو محي الدين شريكين في مِنْقَلٍ يشوي اللحم الكاسدَ في الحارة، لم يشترِ الخليجيون اللحمَ المحشوَّ بالدهن كما كان مخططاً، بل صبيان الحارة وجدوا في الكباب طعاماً قلما تذوَّقوه، وضع المنقل أمام باب عرفان، دخلت الرائحة إلى غرفة نومه فأيقظت فيه أياماً لم يكن يأكل فيها إلا اللحم، كانت أيام لبنان، حين غطى المعارك الفلسطينية اللبنانية بتحيز لا يستطيع إنكاره، وعاش جزءاً من حصار بيروت، بعد قليل استيقظ في عرفان الشاعر الذي قتله قبل عشر سنوات، فقتله من جديد، كان عرفان كلما واجه الفقرَ بكامل حضوره، يقتل شاعراً فيه، ويعترف وهو يشرب الشاي، بأنه أخطأ بأن يكون شاعراً وكاتباً، كان عليه أن يعمل في أيِّ شيء، ومن المؤكد قال في نفسه: “لم يكن يجب أن أتزوج أبداً”.

في حزيران عام 2000، أطلت نساء طرطوس واللاذقية من النوافذ وبدأن بالصراخ والعويل، نزل أبو عروة الإدلبي إلى الحارة، وأمر أبا محمدٍ الفلسطيني أن يغلق دكانه فوراً، كبيري أغلق المحلَّ من نفسه، وكذلك منهل الطرطوسي أغلق صالونه فورَ سماع الخبر، مات حافط الأسد، انهار أبو فراس المساعد في المخابرات في منتصف الحارة، النَّوَر بكَوا رجالاً ونساء وأطفالاً، وارتفع صوت القرآن من سيارات «الجيب واظ» و«التكاسي»، محلٌّ وحيدٌ رفض أن يغلق في السادسة مساء من يوم العاشر من حزيران، كان أبو هيثم الزبداني الكبيرُ في السن، قال لأبي عرْوة:

«الأعمار بيد الله، بدنا نسترزق عمو».

تدخل كلُّ رجال الحارة كي يهدِّئوا أبا عروة ويفهموا أبا هيثم أنَّ الحزن واجبٌ، وضرورةٌ، وأمانُ حياة، أغلق أبو هيثم بعد أن همس له أبو محمد الفلسطيني في إذنه:

«لك هاد مخابرات يا حيوان».

توقف النَّوَرُ عن الرقص واستقبال الضيوف لمدة أربعين يوماً في كلِّ دمشق، صرفوا مدَّخراتهم وباعوا حليهم خلالها، واقتربوا من الإفلاس.

كان النَّوَرُ فرحين للغاية حين بات بإمكانهم أخيراً ان يشتروا بيوتاً في الحارة ولا يستأجرونها، هم سوريون لهم كامل الحقوق الآن، كما صار بإمكانهم لاحقاً أن يُدْلُوا بأصواتهم في انتخابات مجلس الشعب عام 2002، حملوا بطاقاتهم الشخصية وأسرعوا نحو مدرسة موسى بن النصير، لا يعلمون من سينتخبون، لكنها التجربة الأولى لهم.

دخلت صباحُ النَّورِيَّةُ الشقراءُ إلى المركز، وجدت عشرات من الشبان الذي يحاولون أن يقنعوها باسم أحد المرشحين، هم الوكلاء الخاصون بالمرشحين، ابن الحارة أحمد أحدهم، كرديٌّ من عين العرب لا يحمل بطاقة شخصية ويحلم بالهجرة إلى أوروبا، هو وكيل حسانٍ النَّوَري الذي كان يرشح نفسه للمرَّة الأولى لمجلس الشعب، سيحصل أحمد الكردي على ألف وخمسمئة ليرة سورية في حال استطاع أن يقنع 100 شخص بالمرشح، كان يقنع صباح متغزِّلاً بها، هي النَّوَرِية التي ترتدي جينزاً ولا تعمل في الرقص كباقي النوريات، تمضي معظم وقتها مع شبان الحارة تشعل النارَ في الساحة، وتضرب الصبية الرناكسة، وتؤذي النازحين، حتى إنها دخلت في عراك حقيقيٍّ من آل ظهماز الأدالبة، وانتصرت بشراسةِ قتالها.

دارت أحاديث الصبية الذين دخلوا أوَّل الشباب حول صباح، التي كانت هوايتها المفضلة أن تشتري علبَ اللاصق «الشعلة»، وترسم بها دوائر وتشعلها في ليالي الحارة، قالوا إنها ابنة حرام لأبٍ شامي، وأمٍّ نورية، لذلك هي لا ترقص، آخرون اعتبروا القصة حقيقية، وغيروا تفاصيل الوالد، فهو سعوديٌّ رفض الاعتراف بها لكنه مايزال يرسل لها المال، كانت صباح تصرف في كلِّ يوم في الحارة أكثر من ألف ليرة سورية، تبذخ على الصبيان، وتضرب الفتيات، تقول بلهجة لا هي حمصية، ولا شامية ولا حلبية:

«ياريتني زلمة، بس رح أصير زلمة».

شابة لم تصل إلى العشرين، لا ترتدي إلا ما ينفع للذكور «حذاء رياضي، وقميص، وبنطال من الجينز» تمشي في الحارة كأيِّ رجل، تباعد بين أقدامها حين تجلس، وقد تساهم في رمي الكلام على الفتيات المارَّات حين يطيب للصبية فعلُ ذلك.

صباح انتخبت في المركز حسانَ النَّوَريَّ، لأن اسمه راق لها كثيراً، لا تعرف القراءة ولا الكتابة، قال لها أحمد حسان النوري منيح، قالت:

«نوري؟»

«أي نوري».

حصل أحمد على صوت إذ اعتبرت صباح أنه من العائلة، ويجب أن ينال الصوت، بعد أقلَّ من شهر، اشترت صباح منزلاً في الحارة، وبات لها منزلٌ خاصٌّ في الحارة التي أصبح اسمها رسمياً «حارة النَّوَرِ»، ضاقت الحياة بالصحفي عرفان، الذي كان وصل إلى الخمسين ومايزال يستأجر منزلاً من غرفتين بمئتي ليرة في الشهر، حماهُ طوال سنوات قانونُ الآجار الذي تغير عام 2001، وبات بإمكان صاحب المنزل إجباره على تسويةٍ تُخْرِجه من المنزل مقابل 40% من ثمنه.

بكى عرفان أكثر مما بكى في حصار بيروت، حين شاهد صباح الفتية تنقل متاعها إلى الطابق فوق منزله، تذكر كيف قرَّر في بيروت أن يتزوج حين كان يتابع عائلة في بيروت الشرقية من أب وأم وأطفال، فغار، وقرَّر، إن نجا، أن يتزوج من شامية، بكى بذات حرقة ديوانه الشعري الأول الذي لم يفلح في التغلب على محمود درويش، بكى بعيداً عن أولاده الذي بكوا بدورهم كل على حدةٍ.

فوق، في الطابق الثاني، كانت صباح أيضاَ تبكي كما كلَّ يوم، كم تكره أنها نوَرِية، وكم تكره أنها أنثى، تريد أن تكون رجلاً، مع أنها تعيش كما يعيش رجال النَّوَر لا نساؤهم، بكت لأنها ضربت صبياً اليوم شتمها بعضوِها المؤنث، فردَّت عليه بعضو ذكر يريد أن يخترق جسد أمه، فتحدَّاها أن تريه العضو الذي تشتم به، انهالت عليه ضرباً، كعاجزة عن إثبات نظريتها في أنها رجل لا أنثى.

أحمد الكردي بكى أيضاَ، من جديد وعده خاله في ألمانيا أن يرسل له نقوداً كي يسافرَ تهريباً إلى أوروبا، لكنه أخلف الوعد، اقترب أحمدُ من الثلاثين، ومايزال بلا أيِّ حلم، أو عمل، أو هوية، النَّوَرُ حصلوا عليها، وهو مايزال بلا هوية، قال وهو يجهش بالبكاء ويحلم بأوروبا التي ستعطيه هوية.

قصي عمامة

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Plugin from the creators ofBrindes Personalizados :: More at PlulzWordpress Plugins