arablog.org

حارة النور- زي الهوى

قبل أن تسكن نعيمة وكلُّ النور في الحارة، سكن في المنزل ذاته الذي استأجرته نعيمة من أبي محمد الفلسطينيِّ الأعور، مرتحلون كثر، كان الأعور لقباً غير محقٍّ، يطلقه السكان على أبي محمد، فهو لم يكن أعورَ حقيقياً، بل كان بعين زرقاء وأخرى خضراء، وتلك الخضراء، خلقت أصغرُ من الأخرى فبدا الرجل أعورَ لمن يتابع وجهه عن بعد، لكن من يقترب منه بالقدر الكافي سيدرك كم هو نادر أن يمنح الرجل عينين بلونين مختلفين، لم يوَرِّث أبو محمد ولديه ألوانَ عينيه، إذ انتصرت جينات أليفة زوجته الزبدانية ذات العيون السوداء، على جيناته، وكلا الصبيين محمد وسامر حملا عيوناً سوداء، لكن متساويتا الحجم.

زي الهوى!
الطابق الثاني من بناء أبي محمد، كان لا يؤجر كاملاً، ثلاث غرف تؤجر لسكان يشتركون في استخدام الحمام ودورة المياه والمطبخ، أكثرُ الغرف التي عرفت تقلباً للسكان كانت تلك المطلَّة على الحارة، هي الأصغر والأشهر في الحارة، منذ سكنها غيث في أواخر الثمانينات، ذلك الشاب الذي رمى أبو محمد أغراضه في الشارع وتركه ينام كلَّ الليل معها في شتاء 1988.
ما إن دخل غيث الحارة، حتى شعرت النساء بأمر غريب، وسامتُه كانت جذابة لكلِّ المراهقات ووصلت للأمهات، شاب أسمر بعينين واسعتين، طويلٌ متناسقٌ بشعر أطول من بقية رجال الحارة، يتركه ينسدل كيفما أراد، الحفيريات بالذات واللواتي يسكنَّ بجوار غرفته، حلمن به كلَّ ليلة، المعضمانية عائشة قالت لأمِّ طارق الشامية المتزمتة تصفه لها:
– “المضروب أختو بتعشقو.. حليوة”.
لم تجب أم طارق التي اكتفت بتذكير أم عائشة بمخافة الله، ويوم القيامة، ثم ما الذي يعنيه جمال الرجل، المهم في أي رجل هو قوَّته، وإيمانه، وماله، لذلك ينكح الرجال، احمرَّ وجه عائشة حين سمعت كلمة “ينكح”، وغادرت مسرعة باتجاه منزله لتدلِّل ابنها محمداً.
غيث لم يحمل الكثير من الأشياء معه، ثلاث حقائب كبيرة للملابس وجهاز راديو، وجد لها مكاناً في الغرفة التي يؤجرها أبو محمد فارغة بـ 2500 ليرة شهرياً، رتَّب غيث أغراضه بعناية فائقة في الغرفة، فتحَ النافذة، ووضع المذياع عليها، واستعارَ كرسياً وضعه بجانب النافذة خصصه لشرب القهوة في الصباح والمساء.
غيث شامي وطالبٌ جامعيٌّ، ومن الغريب على من في سنه وابن دمشق، أن يستأجر غرفة في مدينته، طرحت الحارةُ بعض الأسئلة عنه، إلا أنه لم يتقرب من أحد ولم يسمح لأحدٍ بالتقرُّب منه إلى درجة السؤال عن قصته، كانوا يكتفون بمشاهدته يجلس لساعات على النافذة شارد الذهن، بعد أن يحلَّ منتصف الليل، يغلقُ غيث نافذته لكنه لا ينام، ضوء الغرفة يوحي أنه مايزال مستيقظاً، كذلك الأغاني التي تسمع مع جهاز الراديو الخاص به.
قبل أن يضرب أبو محمد زوجته أليفة أو بعد ضربها، يكثر من الشرب، يثمل ويصبح من الصعب عليه التحرُّك بين طوابق منزله الثلاثة التي تشترك في درج واحد، من الطابق الثاني يمرُّ أي صاعد إلى منزل الفلسطيني أمام الغرف المستأجرة، هو نفسه يستخدم دورة مياه الطابق الثاني كلما طاب له، ولا يفتح الماء بعد أن يتبول، الأمر الذي يزعج غيثاً ويجعله ينظف كلَّ شيء قبل استخدامه.
كان أبو محمد ثملاً ويريد أن ينام، لكنَّ صوت الأغاني من غرفة غيث كان مرتفعاً يمنعه من النوم، غضب الثمل ونزل الدرج الذي ينتهي بباب غرفة غيث، كلُّ أبواب الطابق الثاني بلا مفاتيح، فلا تقفل أمامَ أي داخل، كان من السهل على شوكت أن يضبط غيثاً متلبساً بفعلته ويطرده تلك الليلة.
غيث يغلق النافذة حين تنتهي نشرة الرابعة والعشرين التي تقدِّمها إذاعة الشرق منتصف كلِّ ليلة، بعد النشرة مباشرة، تبدأ الشرق في بثِّ أغاني عبد الحليم حافظ ووردة الجزائرية، التي ألَّفها بليغ حمدي وترَك فيها مقدِّمات موسيقيةً طويلةً، هذا ما يحبه غيث، تلك الدقائق المليئة بالإيقاع قبل أن يهدأَ اللحن ثم يعود إلى الإيقاع من جديد.
من بين ملابسه أخرج غيث ما يليق بـ “زَيِّ الهوى” لعبد الحليم حافظ، فستان أحمر يكشف الكتفين، وعليه أكثر من مئتي لؤلؤة، وحول خصره خيط “الساتان مع التنتنا”، وتُركت أحبال الخرز الأصفر تلهو كيفما تشاء، وضع الشعر المستعار الذهبي، وبدأ الرقص على ما لحَّن حمدي، يساعده الإيقاع في إمالة جسده كيفما شاء لكن بتوازن مدهش، كَمَان، ودُفٌّ، وغيتارٌ كهربائيٌّ، ويكمل النايُ ما كانت روح غيث تحتاجه، أحسن بليغ اللحن ليكون جيداً لرقص مؤلم يحتاجه الشاب العشرينيُّ.
كانت فرقة عبد الحليم قد وصلت إلى الدقيقة العاشرة من المقدِّمة، ازدحم اللحن، وتسارع إيقاع غيث، حين فتح أبو محمد الباب عليه وشاهده بكامل زينته يضرب الأرض بقدمه مع كلِّ ضربة على الغيتار تأتي من المذياع، لم يقل الحليم بعد أول جملة من “زَي الهوى”، حين كان غيث قد تلقى ضربة في بطنه من الفلسطيني الأعور بغيرِ حقٍّ، وبات غيث مخنَّثاً وفق وصف الأعور، ترجاه كي يسمح له بتبديل ملابسه قبل طردِه إلى الشارع، وتلقي الضربات منه، علا صياح شوكت وسمعته كلُّ الحارة، فيما صرخ غيث من ألمه الذي لا يستطيع الآن أن يعبر عنه بالرقص، بل بالتلوِّي.
في الحارة كان غيث يقف، ومايزال بعض أحمر الشفاه على شفتيه، وشعره الأسود المنسدل غيرُ مرتَّب، وعيناه حمراوتان، من الطابق الثالث، يصرخ عليه أبو محمد طارداً إياه:
– “طنط وخنثا انقلع من هون”.
بكى غيث في الشارع بين ملابسه التي لم يستطع أن يسترها ويخفي النسائية منها، كان شوكت قد رماها في الطريق كي يراها كلُّ السكان، ورمى له جهاز الراديو من شباك الطابق الثاني، مع أنه كان يبكي ظلَّ غيث واقفاً بين ملابسه بلا حركة، عيناه كانتا تتحدَّى أي رجل ينظر إليه في الحارة، بثبات أشبهَ برغبةٍ بالقتال، كان ينظر إلى النساء والرِّجال الذين وجدوا أمراً ملفتاً في الشارع يبدو أكثر إغراءً من النوم المبكر، حتى الصباح، بقي غيث بين أغراضه منتظراً ما لا يعرفه أحدٌ.
لم يقترب أحدٌ في الحارة من غيث، ولم يلُمْ أحد منهم في اليوم التالي أبا محمد على تصرفه، اكتفوا جميعاً بالسبب الوجيه في حارة النَّوَر، الشاب مخنثٌ، فيما سارع أبو محمد إلى إعادة طلاء الغرفة من جديد، وتركها فارغة لشهرٍ كاملٍ كي يطرد الرِّجس منها كما قال لأليفة التي سألته عن رقص غيث وهل كان جميلاً؟، السؤال كان سبباً مبكراً كي يضرب شوكتُ أليفةً من دون سُكْر!.

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Plugin from the creators ofBrindes Personalizados :: More at PlulzWordpress Plugins