arablog.org

حارة النور- الإخوان

 

مساء، كانت الحارة، جميلة، كلُّ النساء ينهين أعمالهن المنزليَّةَ ويتفرَّغن للنميمة، الرجال يتكاسلون، فيما الأطفال والشبان يحوِّلون الشارع إلى ملعب كرَة قدم، أو يزعجون الكبار، كما كنا جميعاً ومع اختلاف الأجيال نفعل مع أليفة زوجة الفلسطيني الأعور، التي كانت تسكن الطابق الثالث، ثم انتقلت إلى الرابع من البناء ذاته، بعدما توسع الأعور أفقياً وبنى طابق جديداً، ليؤجر طابقين كاملين للنَّوَر، كان الصبية يحبون أن يضربوا جرس أليفة ويهرِبون، أليفة القصيرة كانت تطلُّ من النافذة وتصرخ دون انقطاع بكلمة واحدة:

“الإخوان”

  • “مين، لكن مين، مين لك مين”

إصرارها على النداء، ورفع صوتها، وارتجافه كانت أسباباً لضحك الأطفال الهاربين، والذين يعاودون الكرَّة كلَّ خمس دقائق.

عام 1995 ماتت أليفة بصمت، من دون أن تمرض كثيراً وقبل أن تعلن التوبة، قالت نساء الحارة عنها: لم تصلِّ ولو فرضاَ واحداً في حياتها، وظلت تخرج بشلحتها إلى الشارع كاشفة عن جلدها الذي بقي أبيضَ لكن انهار عن عظمها، بكى الأعور عليها أثناء التشييع، جلس أمام باب منزله ورأسه بين يديه، وراح يردِّد اسمَهَا، ويرفع صوت نحيبه، أخيراً ورثها، ورث ما تركت من مالٍ وعقار، قال رجالُ الحارة يسخرون من بكائه عليها.

لم تكن أليفة أوَّل حالة وفاة تعرفها الحارة، ففي الثمانينيات، خرجت أم فراس اللاذقانية من منزلها ظهراً وصرخت في منتصف الحارة، نزعت الحجاب الصغير عن رأسها ومزقت ثيابها من عند الصدر، ولْوَلَتْ أمُّ فراس لنصف ساعةٍ بينما أطفالُها يبكون حولها، سارعت نساء الحارة اللاذقانياتُ للمشاركة في النياح، قبل أن تفهم الحارة أنَّ من مات ليس زوجَ أم فراس، بل سلفها المساعد في المخابرات، قضى في حماة في معارك النظام مع الإخوان المسلمين.

ظلت أم فراس لأسابيع ترتدي الأسودَ في الحارة، ولم تجرؤ أيةْ امرأة على عدم تقديم واجب العزاء، كانت أمُّ عروة الإدلبية وزوجُها المُخبرُ أبو عروة، أكثرَ المفجوعات في الحارة، هي الوحيدة التي آزرت أمَّ فراس وحاشيتها من الجارات المنحدرات من الساحل بالبكاء، بكاء رياء واضح، لكن الجميع يريده، بالذات أم فراس التي جفَّ دمعها،، وهي تصرفه طوال أسبوعين.

بكاء أمِّ مروان الحموية، هو الوحيد الذي لم يكن رياء، إذ وجدت السيدة التي وصلت إلى الأربعين مكاناً علنياً تبكي فيه أخاها الذي قتل في نفس الأسبوع في حماة، شاب لم يصل إلى العشرين قتل مع عشرات غيره التجؤوا إلى مأذنة جامع السلطان في حماة، فقصفت المئذنة بهم، ولم يُقم لهم حتى مجلس عزاء أو تشييع.

أم مروان تبكي بحرقة في العصرية التي أقامتها أمُّ فراس بشكل بدأ يثير الشك حولها، بكاء حرقة لا يتوقف، أم عروة بحسٍّ أمنيٍّ عال قرَّرت في نفسها تفسيراً لدمعِ أمِّ مروان، وهمست به لأم طارق الشامية:

  • “شمتانة هي فيهن، ليكي كيف عم تبكي بجكر”.

أمُّ طارق زوجة الصحفيِّ الفلسطينيِّ الذي كان يستأجر الطابقَ الأول عند الفلسطيني الأعور، كانت تعود بأصولها من والدتها إلى مدينة حماة، وكانت تعرف ما حدث في المدينة ذلك الصيفَ، فنفت تهمة الشماتة عن أم مروان من ذهن الإدلبية، وصرفتها عن النميمة في مجلس العزاء احتراماً للميت الذي وصفته بالكبير، نفعت المزاودة التي اطلقتها أم طارق مع أم عروة، فصمتت.

ذات النساء نظمن بعد أشهر زيارات جديدة لمجلس عزاءٍ جديد في الحارة، كان المتوفى شابٌّ لم يصل إلى الثامنة عشرة، ابن الحداد الشامي أبو سامي، وسامي قتل في ليلة هزت الحارة.

سكن الحداد أبو سامي شارع المخبز العسكري في مساكن برزة، وافتتح محلاً صغيراً لأعمال الحدادة في الطابق الأول من منزله، كان صيف 82، حين طرق الباب عليه منتصف الليل، ليجد عشرات من عناصر المخابرات والجيش مدججين بالسلاح أمام باب منزله، كان طلبهم واضحاَ، يريدون من الحداد أن يفتح باب المنزل المجاور لمنزله، هناك تقرير عن أن مطلوبين يقيمون في المنزل.

لم يفكر أبو سامي بالطلب، انبرى فوراً لمحاولة فتح الباب الحديدي، لكن محاولاته باءت بالفشل، كان يعلم أن المنزل فارغ ولا أحد يسكن فيه، فاقترح أن يقفز أحدُ العناصر من فوق الباب إلى قلب المنزل، ويفتحه، وينتهي الأمر، لكن العناصر رفضوا ذلك، فاقترح أن يقوم سامي ابنه بالمهمة.

في داخل المنزل كان يتحصن عنصر واحد من الإخوان المسلمين، كانت المعلومات التي وصلت إلى المخابرات صحيحة تلك الليلة، لكنَّ العددَ في الداخل ليس بكبيرٍ.

صعد سامي الباب، وحين ظهر رأسه من الفتحة أعلى الباب، سقط برصاصة أطلقت من العنصر في الداخل، سقط سامي ميتاً على الفور، لم يستطع والده الصراخ؛ إذ استنفر العناصر على الفور، وانتشروا في المكان مبتعدين عن الباب، تاركين الجثة أمام المنزل.

حتى اللحظة لم تكن الحارة تعرف ماذا يحدث على بعد شارعين فقط، إلى أن دُقَّت جميع الأبواب قرابة الواحدة فجراً، طلبت المخابرات من السكان مغادرة المنازل باتجاه الشارع فوراً، انتشر الرجال والنساء والأطفال في الأزقة بألبسة النوم، من دون أن يدري أحد ما الذي يحدث، البعض ظنَّ أنَّ عمليات اعتقالٍ ستتمُّ في الحارة، أخرون خشِيوا على منازلهم وممتلكاتهم، وقلةٌ رفضوا الخروج من منازلهم في تلك الساعة المتأخرة، فلم يبالِ عناصر المخابرات بهم.

عند الثانية والربع فجراً، دوَّى صوت في كلِّ الحارة، انفجار ضخم هز المنازل المتلاصقة، هنا جاء الامر بالعودة إلى المنازل للجميع، بعد الصوت لم تسمع الحارة أي شيء تلك الليلة.

فجرت المخابرات المنزل المؤلف من ثلاث طبقات، وأنزلته أرضاَ، وفيما كان سكان الحارة في الشارع، كان السكان في المنازل المجاورة لمنزل أبي سامي خارج كلِّ الحارة تلك الليلة قبل التفجير، زرعت المتفجرات في محيط المنزل بسرعة وبشكل مدروس، هوى البناء يميناً من دون أن يُصابَ أي منزل أخر بالضرر، ورفع الركام ليلاً، وشطف الشارع، شيِّع سامي صباحاً.

وصل أبو عروة الإدلبي إلى الحارة عند الثانية ظهراً، وجلس ليشرب الشاي مع أبي محي الدين اللحام على غير عادة، سأله اللحام فوراً عن أحداث الليلة السابقة، فروى أبو عروة بهدوء وثقة ما جرى، قال إن أمير دمشق في تنظيم الأخوان المسلمين ومعه أحد عشر منهم كان يتحصنون في ذلك المنزل ليلة أمس، ظلَّ لعشر دقائق يذكر أنواع السلاح التي عثر عليها الأمن في المنزل، من خفيف وثقيل، كان مخزناً كاملاً للسلاح الحربيِّ وفق وصف أبي عروة، قال أبو محي الدين لأبي عروة وهو مازال يعد أنواع الأسلحة:

  • “إي مو تفجر البيت، كيف عرفوا شوفيه بقلبوا، ماكلو صار تراب أبو عروة”

لم يكمل أبو عروة كأس الشاي، وأعتبر أنه مخطأ بالحديث مع شخص مثل أبي محي الدين، وانصرف.

حتى منتصف التسعينات، ظهرت صورة سامي ابن الحداد في كتاب طبعته منظمة اتحاد شبيبة الثورة التابعة لحزب البعث، على أنه قتل على يد جماعة الإخوان المسلمين، فيما ذكر في الصحفة ذاتها أنه قُتِل في كمين غادرٍ قامت به الجماعة، و كلامُ أبي عروة ذاتُه عن السلاح والعتاد في المنزل، وُجِد مطبوعاً في الكتاب الذي حمل اسم “جرائم الإخوان المسلمين في سوريا”.

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Plugin from the creators ofBrindes Personalizados :: More at PlulzWordpress Plugins